يوميات علاء الدين
(12)
النيل وزبد النيل
نهر النيل أطول أنهار العالم ويبلغ طوله حوالي 6650 كم وهو ينبع من بحيرة فيكتوريا عند خط الاستواء حيث المنبع الرئيسي طوال العام ومن هضبة أثيوبيا حيث المنبع الصيفي والذي يؤدي إلي فيضان النيل في مصر ويجري في عشر دول تسمي دول حوض النيل وهي : كينيا - أوغندا – الكونغو الديموقراطية ( زائير ) - تنزانيا – بورندي – رواندا – إريتريا – إثيوبيا – السودان – مصر .. ويمكن إضافة جنوب السودان بعد الانفصال ليصير دول النيل إحدى عشر دولة بدلا من عشر .. ويجري نهر النيل في مصر دون روافد تغذيه لمسافة 1532 كيلو متر .. ولولا المياه القادمة من أثيوبيا لما استطاع النيل أن يكمل مسيرته في مصر إلي البحر المتوسط وربما تحولت مصر إلي صحراء قاحلة .. والنيل هو شريان الحياة في مصر فهو يشكل واحة خضراء مستطيلة الشكل وسط صحراء قاحلة يعيش عليها 99,3 % من السكان في مصر بينما مساحة الوادي ودلتاه لا تزيد عن 3,5 % من مساحة مصر التي تبلغ مليون كم2 .. ولا يعيش في باقي المساحة التي تشكل 96,5 % سوي 7, % من السكان
هذا النهر العظيم كيف كان وكيف أصبح ؟
كان نهرا نظيفا تترقرق قطرات مياهه كالفضة عاش المصريون علي ضفافه منذ أقدم العصور يشربون مياهه دون تقطير أو معالجة .. حافظوا عليه واعتبروه سر حياتهم وصاحب الفضل عليهم فعبدوه وجعلوه إلها لهم حسب اعتقادهم وسموه الإله حابي وكانوا أوفياء له فكانوا يحتفلون كل عام في شهر أغسطس حين يفيض النهر بالماء بعيد لا يزال قائما إلي اليوم هو عيد وفاء النيل .. وحافظوا علي كل قطرة منه قدر المستطاع فبنو السدود وحفروا القنوات وأقاموا مقاييس النيل وزرعوا الأرض وأقاموا حضارة زاهرة نشرت ربوعها علي ضفتيه ووصلت إلي دنقلة في السودان فأضاءت الدنيا وغيرت وجه التاريخ
وقد عشت أيام الفيضان .. يوم أن كانت المياه تملأ الوادي وسهوله وتغرق الأرض كلها بالماء وكانت مياه النيل تصل إلي حي وسط البلد وكانت المراكب تصل إلي شارع المناصرة وكانت تضع مراسيها مكان الشيخ عوض صاحب المقام الذي لا يزال قائما حتى اليوم .. وبعد ذلك تم ردم المكان الذي يشمل حي المنشية الآن والذي يمتد من المعهد الديني الأزهري للبنين حتى دار مناسبات وسط البلد الحالية وتحولت إلي مساكن بعد تمليكها للناس .. لكن مياه النيل ظلت تغمر الأرض الممتدة من المعهد الديني للبنين حتى مسجد الكفر البحري وكذا المناطق التي يوجد بها مركز شباب أويش الحجر الحالي وكان هذا الوضع يظل طوال فترة الفيضان حتى تجف المياه بعد أن يذهب معظمها في البحر المتوسط .. ولكني أريد أن أتذكر معكم أيام الفيضان وكيف عشنا بداية الفيضان وآخره
كانت الناس تزرع الأرض وكانت أيام الفيضان تفاجئ الفلاحين رغم علمهم بوقت الفيضان لكن ليس علي وجه التحديد ولم يكن هناك توعية لهم من جانب الدولة لذلك كنا نفاجأ بالمياه ذات اللون الأحمر المحملة بالطمي الخصب تأتي فتغرق الأرض بما فيها من محصول وكان الفلاحون يطلقون الحرية للناس تقطف من ثمار الأرض ما يقدرون عليه قبل أن تغمرها المياه كاملة وكنا ونحن صغار نأخذ ما نستطيع وفي لحظات يختفي النبات ويمتلئ الوادي بالماء عن آخره .. ثم يفتح البربخ لتخزين جزء من الماء في القنوات الفرعية والتي تسمي عندنا في القرية المروي والتي حرفت إلي المروق .. وهو المكان المنخفض الذي يوجد عنده اليوم سوق القرية والممتد من كفر الشنهاب إلي المكان الذي يوجد به الآن ماكينة الطحين خاصة الحاج علي صالح وأولاده .. وكان هناك جسر بين نهر النيل وهذا المروي ( المروق ) نهبه الفلاحون وبيع لأصحاب مصانع الطوب ليصنعوا منه الطوب الأحمر قبل أن يصنع من الطفلة الحالية بقرار من الحكومة المصرية وكانت هذه الرمال شديدة الخصوبة لغناها بالرماد البركاني القادم من أثيوبيا
وأما البربخ فكان عبارة عن قنطرة توصل بين النهر والمروق يوجد لها باب من الحديد يفتح وقت الفيضان وكان المشرف عليه الحاج محمد البنوي الذي بني له بيتا علي الجسر الذي نهب سابقا وكان البيت الوحيد علي هذا الجسر الذي أطلق عليه الجسر الوسطاني حيث كان يوجد الجسر الأصلي القائم إلي اليوم وكان المروق يقع بين الجسرين
وكانت الدولة مهتمة ببناء الجسور لحماية القرى والمدن من الغرق حيث كانت المياه تصل إلي حافة الجسر الحالي مكان السوق وفي مدينة المنصورة كانت المشاية غارقة في مياه الفيضان حيث تصل المياه إلي سور الكرنيش الحالي وكانت الدولة تقوم بتبطين الجسر بالحجارة لمنع تجريف المياه للجسور ... كما كانت توضع نقاط حراسة علي الجسر 24 ساعة لحماية القرية وكانت خيمة الحراسة هناك قبالة مركز الشباب الحالي والتي تعرف بشرطة النيل .. وكان النيل يستغل في الملاحة النهرية ويذكر أن زعماء الدولة كانوا يستخدمون النيل في مواصلاتهم ومواكبهم وقد ذكر لي بعض المعمرين أن سعد زغلول كان يمر من هنا بموكبه وقت الفيضان وكنا نخرج لتحيته ومن الذكريات أن أحد الأعيان وهو الحاج محمد أبو المجد الجمل خرج ضمن الحشد الذي يحي سعد زغلول فوقع منه ( حق النشوق ) ولكنه لم يعبأ بضياعه وظل يهتف لسعد زعيم ثورة 1919م ورئيس أول وزارة دستورية منتخبة في تاريخ مصر الحديث وهو يقول ( حق النشوء فداك يا سعد )
وفي وقت التحاريق أي بعد أن يتنهي الفيضان وتنسحب المياه يجف النهر بعد أن يترك لنا زبد النيل ( أو طمي النيل الذي كان مصدر الخصوبة للأرض المصرية ) ليغطي الأرض بطبقة ناعمة لها رائحة زكية كان الفلاحون يستخدمونها في طلاء حوائط بيوتهم وأرضياتها المبنية بالطوب اللبن كل عام وكانت تعطي جمالا للبيوت منقطع النظير .. وكانت هذه الطمي أو الزبد تغطي قاع القنوات فكانت تشبه السراميك وكنا نشرب منها مباشرة مياه نقية حيث يري قاع القناة من شدة نظافتها ... كما كان الفيضان يترك لنا رمال ناعمة بيضاء تمثل لنا ملاعب كره ومناطق لهو نقضي فيها أوقات فراغنا حيث تنحصر مياه النيل في أقل من ربع المجري والباقي رمال ناعمة .. وتعود الزراعة وتخضر الأرض من جديد بعد أن ظلت شهورا مغمورة بالماء .. فكانت الأرض تزرع مرة واحدة فيما يعرف بري الحياض
وكنا بعد الفيضان نصطاد الأسماك بكميات كبيرة من المياه الضحلة التي يخلفها لنا النهر كمستنقعات بكل سهوله .. حيث نقوم بنزح المياه الضحلة لتبقي لنا الأسماك فنحملها إلي البيوت أجولة طازجة نتمتع بشويها وقليها وتصحيفها في البصل والطماطم وبالهنا
ومن الملاحظ أن عدد الغرقى كان كبيرا في أيام الفيضان ففي معظم الأيام نري غرقي يطفون فوق المياه من بلاد أخري يعرف بعضها ويدفن البعض الآخر بمعرفة الشرطة .. وتبقي الجثث مجهولة لا نعرف أصحابها ويفقد أهلها أبناءهم إلي الأبد
أما كيف أصبح النيل الآن .. فقد تم بناء السد العالي فمنع الفيضان ووقي مصر من خطر الفيضان وولد السد الكهرباء وبنيت المصانع لكن هناك سلبيات منها : تلوثت مياه النيل خاصة في الثلاثين سنة الأخير وأمرضت المياه الناس بالكبد والكلي التي قتلت الأمة بسبب صرف المجاري ومخلفات المصانع في النيل بعد غياب شرطة النيل عن القيام بدورها ... وتم حجب الطمي خلف السد العالي مما أفقد الأرض مصدر خصوبتها .. كما أنه يشكل مصدر خطر علي جدار السد نفسه .. كما نهبت الجسور وبيعت إلي مصانع الطوب .. وسرقت الأراضي القريبة من النيل للكبار الذين زاد ثراءهم فقاموا بالبناء علي أراضي الدولة وحصلوا منها علي الملايين كما في المشاية والمدن والقرى المنتشرة علي النيل فحجبوا عنا جماله ليتمتعوا هم بهذا الجمال دون غيرهم .. فماذا لو قدر الله وانهار السد العالي كيف يكون حجم الكارثة .. والكارثة الأكبر أن النظام السابق كاد أن يضيع النيل من بين أيدينا وأن يحرم مصر من هذا النيل العظيم بعد أن كانت مصر ومهندسي ريها يشرفون علي النيل من منبعه إلي مصبه ...
ليتنا نفهم ما النيل ؟ وماذا يجب علينا نحوه ... لا نقول نعبده كما عبده الأجداد معاذ الله .. بل نقدره ونحفظه ونحميه ونحمي حقوقنا فيه لأنه نعمة الله إلينا وسر بقاءنا أحرارا
حمى الله مصر ونيلها وهيأ لمصر من يعيد للنيل بهاءه ويفكر في طميه ونظافة مائه وجمال شواطئه التي نهبها لصوص نظام فاسد
وإلي اللقاء لكم مني أجمل تحية
بقلم : علاء الدين الجمل
10 رمضان 1432هـ ---- 10 / 8 / 2011